الوهابية....البريئة


بسم الله الرحمن الرحيم

في صراع التيارات العبثي تستغل كل الأحداث لمحاولة النيل من الخصوم، ويتم توظيف الحدث السلبي مهما كان عارضا ، كبيرا أو صغيرا لتشويههم، وعند ظهور ظاهرة سلبية يسعى بعض المسكونين بضغينة الخصام لنسج خيوط العلاقة بين خصومه وهذه الظاهرة مهما بدت تلك العلاقة واهية ومصطنعة،

ومن ذلك محاولة رسم علاقة بين جماعات الغلو وأصول دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله

ولست معنيا في هذا المقال بالحديث المفصل عن نشأة الغلو الأقليمي وأسبابه ، ولا بالدفاع عن دعوة الشيخ الإمام رحمه الله ،

لكن المقال بذرة في حديقة البحث الموضوعي ومحاولة لإيقاظ الضمير العلمي الحر الطليق من ضغائن العداوات الإقليمية أو التاريخية أو الشخصية في تفسير علاقة الغلو بالدعوة السلفية عموما

وسأحاول إثارة الموضوع من خلال هذه النقاط:


1-
 لا يكاد يخلو دين أو فلسفة أو مذهب أو تيار أو فكر من يمين ويسار ، ومن غلاة متطرفين يعتنقون فكرة ثم يتطرفون في تطبيقها ويصنعون نماذج جديدة تشترك مع الفكرة الأصلية في كثير من مضامينها، وتباينها في نزعة التطرف والخطأ فيها، ولذا فإن التطرف الشيوعي يشترك مع الشيوعية في افكار ومضامين. والليبرالية المتطرفة هي حالة من الانحراف عن الليبرالية في وضعها المعياري المعتدل وهكذا الوطنية ونزعتها الشوفينية حتى في الأشياء الصغيرة كتشجيع الأندية ونحوها نجد التطرف الذي يقاسم الفكرة الأصلية بعض معالمها، ليس من العدل إذن أن تحمل الأفكار في وضعها المعياري المعتدل تبعات ممارسات الفكر المتطرف فيها، ليس من العدل أن نصف كل مشجع أو التشجيع نفسه لفريق معين بالتطرف لوجود متطرفين بين الجماهير، وبالمثل يبدو التصريح أو التلميح بتعيير التيار السلفي بالتطرف بسبب ممارسات جماعات تشترك مع التيار السلفي في بعض المعالم التي ليس منها محل النزاع وهو التطرف والغلو والانحراف.

2-
 مهما كان حجم المشترك بين فكرة الاعتدال والتطرف فلس مسوغا لإدانة الاعتدال بالتطرف، يبدو هذا منطقيا وعادلا وواضحا، حتى في السنن الكونية( أو ما يسمونه بقوانين الطبيعة) فزيادة ذرة واحدة على ذرات الذهب يصير زئبقا، وهناك نباتات تنتمي لذات الجنس بعضها في غاية الجمال والحلاوة والآخر في نهاية القبح والمرارة، والنقطة الحرجة هي نقطة بين حدود الفكرة المعتدلة والفكرة المتطرفة، التي تفقدها حقيقة الانتماء لها في ذات النقطة والمجال. إدراك النقطة الحرجة يجعل المنصف يتنزه عن ألعوبة التشويه والعبث ومد رواق التهمة على مناطق بريئة منها

3-
 ربما لا تكتفي الجماعة المتطرفة في الالتزام بمضامين الجماعة المعتدلة، بل ما هو أكثر من ذلك ربما يتفوقون على القطاع العريض من أتباع الجماعة المعتدلة في بعض المضامين ويكونون أكثر امتثالا فيها، (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم) ومع ذلك لا يسوغ عند العقل العادل إدخال هؤلاء في هؤلاء.

4-
 الغلو هو انحراف نحو الزيادة، لذا فطبيعة الغلو أنه يحمل الكثير من مضامين الفكرة الأصلية، فاليمين المتطرف في كل الأفكار لديه الأفكار الأصلية وزيادة عليها وتشويه في طرف الإضافة، ولذا تبدو علاقة الفكرة الأصل بها أوضح من التطرف نحو اليسار، إذا التطرف نحو اليسار في الفكرة نفسها، يعني التخلي عن مضامين الفكرة لذا فغلو الجماعات التكفيرية ليس تطرفا نحو التفريط في مضامين الفكرة الأصلية بل زيادة عليها ولكنها زيادة تفقدها خصائص الأصل، لذا تبدو المشتركات أكثر التباسا، ولكنها ليست مسوغا للخلط في العقول العادلة.

5-
 من المنطقي أن البيئات الشيوعية هي المكان الذي سيظهر فيه التطرف الشيوعي، والمسيحية هي المكان الذي سيظهر فيه اليمين المتطرف، وليس هذا تطرفا فيهما بالضرورة، وكذلك المجتمع الإسلامي هو بالتأكيد المكان الذي سيظهر فيه الغلو والتطرف الإسلامي وجماعات التكفير، كما إنه من غياب المنطق أن نطالب المسيحيين بالتخلي عن المسيحية لأجل وجود يمين متطرف فيها ولا أن نتهم الأحزاب المسيحية بجرائم الإرهاب التي يقوم بها اليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا (نحن مدعوون لدعوتهم للإسلام لأسباب أخرى) ليس هذا منها. فكل الفرق البدعية التي ظهرت في الإسلام دون استثناء حتى الفرق الخارجة التي فارقت الإسلام نفسه، يجمعها بعض المشتركات مع الدين الصحيح.

6-
 المجتمعات المسيحية المحافظة هي أقرب المجتمعات لاحتمال ظهور اليمين المتطرف منها، وهذا منطقي أيضا، لما ذكرنا آنفا حول طبيعة الغلو وأنه زيادة ولن تكون الزيادة إلا في مجتمعات مكتظة بالفكرة الأصلية ، وكذا الليبرالية المتطرفة، لذا فالخارجي الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم ليس هناك احتمال أن يكون مثله في الروم في ذلك الوقت، كما إنه من المستبعد أن تنشا تيارات ليبرالية متطرفة في الصين، وهم لم يحصلوا على الحد الأدني من الليبرالية.

7-
 التيار السلفي هو التيار الذي يحاول الالتزام بتطبيق الإسلام في وضعه المثالي، والغلاة المتطرفون يشطحون بالتطبيق بالزيادة والتشدد والغلو، لذا فهم يحتاجون لتغذية غلوهم بأصول الفكرة وأدلتها في وضعها المعتدل، ومن ثم يختطفون نصوصها إلى نموذجهم الغالي المكفر، مثلا التيار السلفي مؤمن بأهمية الجهاد في ضوابطه الشرعية وتطبيقاته الملتزمة بالوحي، والغلاة يختطفون نصوص الجهاد ويوظفونها في أحوالهم الغالية، فاستمدادهم للأدلة من مدرسة الحق لا يعني أنهم صادقون في استدلالهم ولا أن تنزيلهم للنصوص يؤيد فكرتهم، ولا يمكن أن ننسبهم للتيار الصوفي في صورته الخرافية الذي عطل فريضة الجهاد وحشر الدين في هوهوات في الزوايا ، وليست هذه منقبة للصوفية المنحرفة بل لأنه ليس لديها مشترك من الحق يمكن أن تتكئ الفرقة الغالية عليه، كما إنه من العدل ألا نطالب التيار السلفي بالتوقف عن الالتزام بفكرة الجهاد في وضعها المنضبط بضوابط الشريعة،

حين يتناول المريض جرعة مفرطة من الدواء فيموت، لا يعني أن الدواء مميت، لكن الجرعة التي تناولها فوق المقرر هي التي تسبب في وفاته. كما إن محاولة الانتساب لتيار السلف وأئمته وكتبه من كل الفرق الغالية والمبتدعة يدل على اعتراف ضمني أنها هي المترجم الأقرب للدين الحق. فكل الدعاوى هي محاولة للحصول على الشرعية في دين الإسلام.

8-
 الجزيرة العربية ومنها المملكة العربية السعودية هي مهد الإسلام ومهبط الوحي ومأرز الإيمان، وفي العصر الحاضر وبدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب صارت معنية أكثر من غيرها من الأقاليم بنصرة الإسلام لانتشار العلم الشرعي والدعوة إلى الله عز وجل فيها، وقد تحقق لها من العزة والتمكين والرخاء واجتماع الكلمة عقودا طويلة بفضل الله أولا، ثم بالاجتماع على هذه الدعوة السلفية التي تتشوف للتطبيق الأمثل للإسلام، وليس عارا عليها أن يخرج فيها تيار الغلو والتطرف لما تقدم من طبيعية دينامية نشوء الغلو وآليات تطوره ، ولا يعني أنها أي الدعوة السلفية ليس فيها التحصين الكافي من الغلو، كلا بل هي تطبيقها الصحيح هي أكثر من كل التيارات تحصينا من التطرف لأنها تستمد حصانتها من نصوص الوحي، وهذا لا يمكن إنكاره ولذا فمن العجيب أن هؤلاء ينسبو إلي الدعوة السلفية الغلو في طاعة ولاة الأمر وتحريم الخروج وفي نفس الوقت ينسب إليها الغلو والعنف والتكفير!!!! ونبتة الخوارج نبتت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الخلق تطبيقا لشرع الله سبحانه وتعالى، وخرج الخوارج في عهد الرعيل الأول في وقت التطبيق الأمثل للإسلام في التاريخ،

9-
 محاولات نبش التاريخ وتتبع الممارسات التاريخية ا هو اعتراف بالهزيمة في الساحة الفكرية المحضة، فبعد محاولات بدا أنها فاشلة في إلحاق هزيمة بالتيار السلفي في الساحة الفكرية، هرب بعضهم إلى التاريخ ليلتقط ممارسات بشرية ، وينتزعها من سياقها التاريخي وملابساتها السياسية والاجتماعية ويتم محاكمتها في غياب المتهمين والشهود والمحامين والظرف التاريخي ومن مصادر تقرأ التاريخ من زاويتها الفكرية، ليحاول الربط بين الدعوة السلفية وتيارات الغلو، مع أنه من الإنصاف أن عقيدة السلف وأهل السنة والجماعة معروفة محررة فإن كان لديه جدل حول تلك المفاهيم فكان الأولى به البقاء في ساحة نقض تلك الأصول إن استطاع وأنى له ذلك، بدل نبش قبور قد فنيت عظام أهلها ولقوا ربهم،

10-
 الاستدعاء الانتقائي للتاريخ حيدة عن الجدال الفكري المنصف، وكل الأديان والمذاهب والتيارات في تاريخها ممارسات سلبية واجتهادات خاطئة تخرج عن أصلها ومحاولة تصخيم هذه الممارسات إن ثبتت لترسيخ أصل فكري ثابت ، فقدان للإنصاف والحقيقة ، وهذا النبش أشبه بالنقائض القبلية التي تستعدي أيام القبيلة ومثالبها، وتحويل الفكر إلى ساحة لشعراء القلطة. والسلف لا يدعون العصمة لأفعالهم لكنهم يدعون العصمة للوحي ويؤمنون إيمانا جازما بأنه هو الحق. وذو الخويصرة قال للنبي اتق الله، وقال له اعدل والأمر بالتقوى والأمر بالعدل منصوص عليهما في الوحي، ولكن تم توظيف النص بصورة غالية ومنحرفة وخاطئة وكانت ميلاد الخوراج الفكري، وكذا كان الحرورية يقولون لعلي، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وهو أيضا نص قرآني، ورفض المدرسة السلفية وعداءها التاريخي للخوارج أشهر من أن ينبه عليه، وأما الأخطاء في الاجتهاد في القتال أو نحوه فقد وقع بعض من ذلك في عهد الصحابة رضي الله عنهم كسرية عبدالله بن جحش، وحادثة أسامة بن زيد ، ولكن مدرسة الوحي ترفض وتصحح وتقوم وأصلها ثابت وفرعها في السماء.

11-
 عند البحث الموضوعي نجد أن الجذور الفكرية للغلو تشترك معها كل الفرق والتيارات التي تبتعد عن الوحي، فعدم تعظيم النص وترك فهمه على ضوء فهم السلف يشترك فيه الخوارج مع كثير المبتدعة مع كثير من المنحرفين فكريا في عصرنا، وإذا فتحنا هذا الباب فسيظهر أي الفريقين أقرب لمذهب الخوارج، فقل لي رحمك الله: أيهم أقرب لمذهب الخوارج الذي يسخرون من نصوص السمع والطاعة والجماعة ويتندرون ب:ولو جلد ظهرك وأخذ مالك، وقل أن تجد في كلامهم نصا في شأن حصانة الدماء والأنفس والأموال والأعراض ولا حديثا ولا قرآنا، أم الذين يعظمون نصوص الوحي، ويعظمون شأن الدماء، وينشرون أحاديث الفتن، وينقلون أخبار تعظيم جريمة القتل

بل إن هذا الانتساب التاريخي واللحمة قديمة بين المعتزلة( التي يعظمها العقلانيون) والخوارج وكان أهل السنة يسمونهم باسم واحد الوعيدية لأنهم يتشابهون كثيرا في باب التكفير والخروج والتساهل في الدماء وإهدار حق الجماعة، بل يتطابقون في الممارسة الفعلية ويصلون للنتيجة نفسها

وهذا ارتباط فكري صرف لم نتكلف نبش القبور التاريخية والوقائع السياسية الشاردة هنا وهناك لإثباته بل هو التزام فكري ثابت ومستمر وهو أصول عقدية منشورة. ومضامين المنهج الاعتزالي وامتداداته الفكرية واضحة الارتباط مع الخوارج والمكفرة وبيان ذلك يحتاج إلى مقال مفصل ونقولات من كتبهم لا يسعه هذا المقال، لكن من عنده إلمام يسير بالفرق يدرك ذلك بوضوح.

اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

Comments